فصل: فصل في معرفة أركان القضاء:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: البهجة في شرح التحفة (نسخة منقحة)



.فصل في معرفة أركان القضاء:

أي أجزاء ماهيته التي لا يتم القضاء الذي هو الحكم مع اختلال واحد منها. وهي ستة: القاضي وقد تقدم في قوله: منفذ بالشرع إلخ.
والمدعي والمدعى عليه والمدعى فيه، وعبر ابن فرحون عن الأولين بالمقضى له وعليه، وعن الثالث بالمقضى فيه. وزاد ركنين آخرين أحدهما: المقضى به يعني من كتاب أو سنة أو إجماع بالنسبة للمجتهد أو المتفق عليه أو المشهور أو الراجح أو ما به العمل بالنسبة للمقلد، وهذا الركن يفهم من قول الناظم فيما مرّ ويستحب العلم فيه إلخ.
على ما تقدم من أنه على حذف مضاف أي يستحب زيادة العلم فيه، وأما أصل العلم فركن من أركانه وشرط صحة فيه كما مرّ، فإن خرج المجتهد عما ذكر من الكتاب والسنّة والإجماع لم ينفذ حكمه لاختلال ركنه وهو معنى قول (خ) ونقض وبين السبب مطلقاً ما خالف قاطعاً أو جلي قياس كاستسعاء معتق وشفعة جار إلخ.
وإن خرج المقلد عما ذكر من الاتفاق وما معه لم ينفذ حكمه لاختلال ركنه أيضاً، إذ حكمه لا يرفع الخلاف كما مرّ (ت) الإشارة إليه. وقول (ت) هنا: إلا أن هذا بالنسبة للاجتهاد ليس على ما ينبغي بل كلام ابن فرحون في المجتهد والمقلد كما يعلم باستيعاب كلامه في هذا الركن. وثانيهما: كيفية القضاء وهي تتوقف على أشياء كمعرفة ما هو حكم فلا يتعقب لأن حكم المجتهد يرفع الخلاف وما ليس بحكم كقوله: أنا لا أجيز النكاح بغير ولي أو لا أحكم بالشاهد واليمين فيتعقب أي: فلمن بعده من حنفي أن يحكم بصحة النكاح أو مالكي أن يحكم بالشاهد واليمين كما مرّ في الترجمة قبله، ومعرفة ما يفتقر لحكم كالطلاق بالإعسار والإضرار والطلاق على المولى، ونحو ذلك مما يحتاج فيه إلى نظر وتحرير في تحقيق سببه كالتفليس وبيع من أعتقه المديان والعتق بالمثلة وما لا يفتقر كتحريم المحرمات المتفق عليها ورد الودائع والغصوب، ومنه العتق بالقرابة. ومن أعتق جزاءً في عبد بينه وبين غيره فيكمل من غير حكم على المشهور ومعرفة ما يدخله الحكم من أبواب الفقه كالنكاح وتوابعه وسائر المعاوضات، وما لا يدخله كالعبادات ومعرفة الفرق بين ألفاظ الحكم التي جرت بها عادة الحكام كقوله: حكمت بثبوت العقد وصحته فيلزم ذلك وقفاً كان العقد أو بيعاً أو غيرهما، وبين ما لم تجر العادة به كقوله: أسفل الرسم أو على ظهره ورد على هذا الكتاب فقبلته قبول مثله، وألزمت العمل بموجبه أو بمضمونه فليس بحكم لاحتمال عود الضمير في موجبه ومضمونه على الكتاب، وإن ما تضمنه من إقرار أو إنشاء ليس بزور مثلاً فيكون مراده تصحيح الكتاب وإثبات الحجة فلمن بعده النظر فيه، فإن قال: حكمت بموجب الإقرار أو الوقف الذي تضمنه الكتاب فهو حكم بصحته ومعرفة الفرق بين الثبوت والحكم، وتقدم الكلام عليه في الترجمة قبله ومعرفة المدعي من المدعى عليه فالمدعي والمدعى عليه ركنان مستقلان عنده، أعني عند ابن فرحون، والحال التي يعرف بها كل منهما من أجزاء الركن السادس الذي هو الكيفية.
قلت: تأمل ففي القلب منه شيء لأن الحكم على الشيء فرع تصوره فلا يحكم عليه بأنه مدع حتى تعرف حاله ومعرفة الدعوى الصحيحة وشروطها، ومعرفة حكم جواب المدعى عليه من إقرار أو إنكار أو امتناع منهما، وقد أشار الناظم إلى هذين الأخيرين بقوله: تحقق الدعوى مع البيان. وبقوله بعد: ومن أبى إقراراً أو إنكاراً إلخ.
ومعرفة كيفية الإعذار ومعرفة صفة اليمين ومكانها والتغلظ فيها، وقد أشار الناظم لهذين أيضاً في فصلي الإعذار واليمين، فهذه كلها من أجزاء هذا الركن، فالناظم رحمه الله قد أشار لبعض أجزاء هذا الركن الذي هو الكيفية ولم يهمله كل الإهمال، وبهذا تعلم أن جعل الكيفية من الأركان صحيح لا تسامح فيه خلافاً ل (ت) لأنه إن لم يكن عارفاً بتفاريعها اختل حكمه باختلاف محله إذ قد يحكم بالصحة فيما حكم غيره بالفساد، وبالعكس مع كون الحكم الأول لا يتعقب، وقد يحكم فيما لا يفتقر لحكم فحكمه كالعدم لأنه من تحصيل الحاصل، وهذا إذا لم يعرف كون الدعوى صحيحة ولا كيفية الإعذار ولا محل اليمين ونحو ذلك. وقد علمت بهذا أن الناظم تكلم على الأركان الستة خلافاً لما في (م) و(ت). ولما كان بين المدعي والمدعى عليه التباس وعلم القضاء يدور على التمييز بينهما إذ من ميز بينهما، فقد عرف وجه القضاء كما قال سعيد بن المسيب رضي الله عنه: إذ لم يختلف العلماء فيما لكل منهما من أن البينة على المدعي واليمين على المدعى عليه اعتنى الناظم بشأنهما مصدراً بهما في هذا الفصل فقال:
تَمْيِيزُ حَالِ المُدَّعِي والمدَّعَى ** عَلَيْهِ جُمْلَة القَضَاءِ جَمَعَا

فقوله: (جملة القضاء) مفعول لقوله: (جمعاً)، والجملة خبر تمييز، والظاهر أن لفظة حال ليست مقحمة لأن الشيء إنما يتميز من غيره بصفته، فالمدعي يتميز بكونه يتجرد قوله عن مصدق والمدعى عليه بعكسه كما قال: (فالمدعي من قوله مجرد من أصل أو عرف بصدق يشهد)
فَالمُدَّعِي مَنْ قَوْلُهُ مُجَرَّدُ ** مِنْ أَصْلٍ أَوْ عُرْف بِصدْقِ يَشْهَدُ

(أو) بمعنى الواو إذ لابد من تجرد دعواه منهما معاً، فإن تجردت من أحدهما دون الآخر فهو مدعى عليه كما قال:
وَالمدَّعَى عَلَيهِ من قد عَضَدا ** مَقالَة عُرف أو أصْل شهِدا

(والمدعى عليه من قد عضدا) أي قوي (مقاله عرف) أي سبب كحائز شيئاً مدة الحيازة في وجه القائم وادعى الشراء منه أو الهبة، فالحائز مدعى عليه لأنه تقوى جانبه بالحيازة، والقائم مدع وسيشير الناظم إلى هذا في الحوز بقوله: واليمين له إن ادعى الشراء منه بعمله، وكجزار ودباغ تداعيا جلداً تحت يدهما أو لا يد عليه، فالجزار مدعى عليه والدباغ مدع فإن كان تحت يد أحدهما فالحائز مدعى عليه، وكقاض وجندي تداعيا رمحاً تحت يدهما أو لا يد عليه فالجندي مدعى عليه والقاضي مدع، وكعطار وصباغ تداعيا مسكاً وصبغاً فالعطار مدع في الصبغ مدعى عليه في المسك والصباغ بالعكس، ومنه اختلاف الزوجين في متاع للبيت، فللمرأة المعتاد للنساء ما لم يزد على نقد صداقها وهي معروفة بالفقر كما يأتي للناظم في فصل اختلافهما فيه إن شاء الله، ومنه النكول ودعوى الشبه عند الاختلاف في الصداق أو البيع أو غيرهما ودعوى العامل في القراض أو المودع عنده الرد حيث قبضه بغير إشهاد، فقد علمت أن المدعى عليه في هذه الأمثلة هو من تقوى جانبه بسبب من حيازة أو شبه أو نكول صاحبه أو أمانة أو كون المتنازع فيه مما شأنه أن يكون له، والمدعي من تجرد قوله عن ذلك السبب (أو أصل شهدا) كاختلافهما في رد الوديعة أو القراض المقبوضين بإشهاد، لأن رب المال والوديعة لما دفعا بإشهاد انتفت أمانة القابض ولا سبب يعضد قوله غيرها، فهو مدع وهما مدعى عليهما، وإن كانا طالبين لأن الأصل عدم الرد، ومنه اختلاف اليتيم بعد بلوغه ورشده مع وصيه في الدفع، فإن اليتيم متمسك بالأصل الذي هو عدم الدفع فهو مدعى عليه، والوصي مدع لأنه غير أمين في الدفع عند التنازع لقوله تعالى: {فأشهدوا عليهم} (النساء: 6) وكاختلافهما في قضاء الدين أو في أصله أو في رقبة حائز نفسه يدعي الحرية لأن الأصل عدم القضاء وبراءة الذمة والحرية.
قِيلَ مَنْ يَقُولُ قَدْ كَانَ ادَّعا ** وَلَمْ يَكُنْ لِمَنْ عَلَيْهِ يُدّعَى

(وقيل): في تعريفهما أي المدعي والمدعى عليه.
(من يقول قد كان ادعا ** ولم يكن لمن عليه يدعى)

وهو لابن المسيب رضي الله عنه قال: كل من قال قد كان فهو مدع وكل من قال لم يكن فهو مدعى عليه. اهـ.
قال الشارح: وليس بخلاف للرسم الأول، وإنما هو تعريف أخصر وتوضيح أوجز. ورد بدعوى المرأة على زوجها الحاضر أنه لم ينفق عليها، وقال هو أنفقت وبدعوى المرأة المسيس على زوجها في خلوة الاهتداء وادعى هو عدمه فهو مدعى عليه في الأولى لشهادة العرف له وهي مدعية وهما في الثانية على العكس وهذا التعريف يقتضي أنها في الأولى مدعى عليها لأنها تقول لم يكن وفي الثانية مدعية لأنها تقول قد كان. وقيل كل طالب فهو مدّعٍ وكل مطلوب فهو مدعى عليه. ورد أيضاً بما تقدم في ربا المال والوديعة مع الإشهاد، وباليتيم مع وصيه وبدعوى المرأة في خلوة الاهتداء فإن كلاً منهم طالب مع أنه مدعى عليه.
وأجيب: بأن الرد على التعريفين بما ذكر إنما يتم لو كان القائل بهما يسلم أن الطالب ومن يقول قد كان فيما ذكر مدعى عليه، وإلاَّ فقد يقول: إنه مدّعٍ قام له شاهد من عرف أو أصل ولا يحتج على الإنسان بمذهب مثله، واختار هذا الجواب ابن رحال.
والحاصل على ما يظهر من كلامهم وهو الذي يوجبه النظر أن المتداعيين إما أن يتمسك أحدهما بالعرف فقط كالاختلاف في متاع البيت ودعوى الشبه واختلاف القاضي والجندي في الرمح، والجزار والدباغ في الجلد ونحو ذلك مما لم يتعارض فيه العرف والأصل، وإما أن يتمسك بالأصل فقط كالاختلاف في أصل الدين وفي قضائه وفي دعوى الحائز نفسه الحرية، ودعوى رب المال والمودع عدم الرد مع دفعهما بإشهاد ودعوى اليتيم عدم القبض ونحو ذلك، فالمدعى عليه في هذين هو المتمسك بذلك العرف أو الأصل على الرسم الأول، والمطلوب هو من يقول لم يكن على التعريفين الأخيرين، وإما أن يتمسك أحدهما بالأصل والآخر بالعرف فيأتي الخلاف كدعوى الزوج على سيد الأمة أنه غره بتزويجها، فالأصل عدم الغرور، وبه قال سحنون. والغالب عدم رضا الحر بتزوج الأمة وبه قال أشهب وهو الراجح، وكمسألة اختلاف المتراهنين في قدر الدين فإن الرهن شاهد عرفي والأصل براءة ذمة الراهن، وكمسألة الحيازة المتقدمة ودعوى عامل القراض والمودع الرد مع عدم الإشهاد لأن الغالب صدق الأمين، ودعوى المرأة المسيس وعدم الإنفاق ونحو ذلك، فالمدعى عليه في مثل هذا على الرسم الأول هو المتمسك بالعرف لأن قول الناظم أو عرف أعم من كونه عارضه أصل أم لا. وعلى الرسمين الأخيرين هو المطلوب، ومن يقول: لم يكن، لكن لما ترجح جانب المدعي فيها بشهادة العرف لأنه أقوى صار المدعي مدعى عليه، ويدل لهذا قول ابن رشد ما نصه: المعنى الذي من أجله وجب على المدعي إقامة البينة تجرد دعواه من سبب يدل على صدقه فيما يدعيه، فإن كان له سبب يدل على صدقه أقوى من سبب المدعى عليه كالشاهد الواحد أو الرهن أو ما أشبه ذلك من إرخاء الستر وجب أن يبدأ باليمين دون المدعى عليه. اهـ.
ونقله القلشاني وغيره فتأمل كيف سماه مدعياً وجعل الرهن وإرخاء الستر والشاهد الحقيقي سبباً لصيرورته مدعى عليه، لكونه في ذلك أقوى من سبب خصمه المتمسك بالأصل، وقد اختلف هل العرف كشاهد أو كشاهدين؟ البرزلي: القاعدة إحلاف من شهد له العرف فيكون بمثابة الشاهد، وقيل: هو كالشاهدين. اهـ.
وقد درج (خ) في مواضع على أنه كالشاهد منها قوله في الرهن وهو كالشاهد في قدر الدين، وقد عقد في التبصرة باباً في رجحان قول المدعي بالعوائد. وقال القرافي: أجمعوا على اعتبار الغالب وإلغاء الأصل في البينة إذا شهدت فإن الغالب صدقها والأصل براءة ذمة المشهود عليه. اهـ.
فهذا كله يوضح لك الجواب المتقدم عما ورد على التعريفين، ويدلك على عدم الفرق بين التعاريف الثلاثة لأن المدعي قد ينقلب مدعى عليه لقيام سبب أقوى من سبب خصمه كان ذلك السبب حقيقياً أو عرفياً إلا أن العرفي لا يقوى عندهم قوة الحقيقي فليست اليمين معه تكملة للنصاب حتى يؤدي ذلك لنفي يمين الإنكار بدليل أنه إذا انضم إليه شاهد حقيقي لا يثبت الحق بدون اليمين كما نقله بعضهم عن المتيطي عند قول (خ) وهو كالشاهد إلخ.
فاعتراض (ت) على الجواب السابق بكونه يؤدي لنفي يمين الإنكار إلخ.
ساقط، وقد علم مما مر أن الشبه والغالب والعرف والعادة كلها بمعنى، وأنه إذا تعارض الأصل والغالب فيقدم الغالب لقوله تعالى: {وأمر بالعرف} (الأعراف: 199) فكل شيء كذبه العرف وجب أن لا يعمل به إلا في مسألة دعوى الدين إذا كان مدعيه أتقى الناس وأعلاهم في العلم والدين، فإن الغالب صدقه والأصل براءة الذمة فيقدم الأصل على الغالب في هذه عند المالكية، وقدم الشافعية الأصل في جميع صور التعارض.
تنبيهات:
الأول: إذا تمسك كل منهما بالعرف كما إذا أشبها معاً فيما يرجع فيه للشبه كتنازع جزار مع جزار في جلد ونحو ذلك، فيحلفان ويقسم بينهما حيث لم يكن بيد أحدهما، وإن تمسك كل منهما بالأصل كدعوى المكتري للرحى أو الدار أنها تهدمت أو انقطع الماء عنها ثلاثة أشهر. وقال المكتري: شهران فقط فقيل المكتري هو المدعى عليه لأن الأصل براءة ذمته من الغرامة فيستصحب ذلك، والمكري مدع، وقيل بالعكس لأن عقد الكراء أوجب ديناً في ذمة المكتري، وهو يدعي إسقاط بعضه فلا يصدق، وكما لو قبض شخص من رجل دنانير، فلما طلبه بها الدافع زعم أنه قبضها من مثلها المرتب له في ذمته، فإن اعتبرنا كون الدافع بريء الذمة من سلف هذا القابض كان الدافع مدعى عليه وهو الراجح كما لابن رشد وأبي الحسن وغيرهما، وإن اعتبرنا حال القابض وأن الأصل فيه أيضاً براءة الذمة فلا يؤاخذ بأكثر مما أقر به جعلناه هو المدعى عليه. فافهم فبهذه الوجوه صعب علم القضاء ودق.
الثاني: من معنى ما مر إذا علق الزوج طلاق زوجته أو خيرها على عدم حضوره معها بمجلس الشرع يوم كذا، ووقعت في حدود الأربعين بعد المائتين والألف فقامت المرأة بعد مضي اليوم وأرادت أن تشهد بأنها اختارت فراقه، فامتنع العدول من أن يشهدوا عليها إلا بمشورة القاضي فشاورته فمنعها القاضي من ذلك حتى تثبت عدم حضوره في اليوم المعلق عليه، وهذا من أفظع الجهل من العدول ومن القاضي، إذ حضوره في اليوم المذكور محتمل، والأصل عدمه فهي مدعى عليها وهو مدعٍ، وكثيراً ما كان يصدر مثل هذا من هذا القاضي فكان يمنع الأوصياء من بيع مال الأيتام حتى يثبتوا أنهم لا مال لهم ظاهراً ولا باطناً، ولا يكتفي بمحاسبتهم على زمام التركة، وإذا بيع عليهم صفقة منع أوصياءهم من الإمضاء حتى يثبتوا ما ذكر، وهكذا كل ما الأصل عدمه وما دري أن إثباتهما ما ذكر لا يفيد شيئاً لأن الشهادة في ذلك لا تكون إلا على نفي العلم، فإذا طلقت نفسها أو باع الوصي بعد الإثبات المذكور ثُمَّ أثبت الزوج الحضور أو اليتيم الوفر وقت البيع لقدمت بيناتهما على بينة الزوجة والوصي لأنها على القطع مثبتة، والأخرى على العلم نافية فلم يكن لتكليفهما بها فائدة. وقد نص ابن القاسم على أنه إذا علق أمرها بيدها على عدم بعثه لها بالنفقة يوم كذا فرفعت أمرها للحاكم، وزعمت أنه لم يبعث لها شيئاً وطلقت نفسها، فإن قدم وأثبت البعث فهو أحق بها، وإن كانت تزوجت فكذا (ت) الوليين.
الثالث: قال القرافي: خولفت قاعدة الدعاوى في خمس: في لعان الزوج في الحمل والولد فقبل قوله: لأن العادة أن ينفي الزوج عن زوجه الفواحش فحيث رماها بها مع إيمانه قدمه الشرع، وفي القسامة فقبل فيها قول القتيل لترجيحه باللوث، وفي دعوى الأمناء التلف فقيل قولهم لئلا يزهد الناس في قبول الأمانات فتفوت مصالحها والأمين قد يكون من جهة مستحق الأمانة، وقد يكون من جهة الشرع كالوصي والملتقط ومن ألقت الريح ثوباً في بيته. وفي التعديل والتجريح قيل فيهما قول الحاكم لئلا تفوت المصالح المرتبة على الولاية، وفي دعوى الغاصب التلف قبل قوله: لئلا يخلد في السجن اه إلخ.
فتأمل قوله في اللعان والقسامة والأمانة، فإن الظاهر أن ذلك مما قدم فيه الغالب على الأصل كما مرّ فلم تكن فيه مخالفة، وبعضهم يعبر عن الأمين بأن الغالب صدقه أي في الرد والتلف، وبعد أن ذكرها المكناسي في مجالسه قال: ومنها اللصوص إذا قدموا بمتاع وادعى شخص أنه له وأنهم نزعوه منه فيقبل قوله مع يمينه ويأخذه، ومنها السمسار إذا ادعى عليه أنه غيب ما أعطى له للبيع وكان معلوماً بالعداء وبإنكار الناس فيصدق المدعي بيمينه ويغرم السمسار. ومنها السارق إذا سرق متاع رجل وانتهب ماله وأراد قتله وقال المسروق: أنا أعرفه فيصدق المسروق بيمينه. وهذه المسائل التي زادها لا تحملها الأصول كما لأبي الحسن. وقال القرافي في الفرق بين ما يقدم فيه النادر على الغالب ما نصه: أخذ السراق المتهومين بالتهم وقرائن أحوالهم كما يفعله الأمراء اليوم دون الإقرار الصحيح والبينات المعتبرة الغالب مصادفته للصواب والنادر خطؤه، ومع ذلك ألغى الشارع هذا الغالب صوناً للأعراض والأطراف عن القطع. اهـ.
ففهم منه أنه إنما ألغى الشارع هذا الغالب بالنسبة للأعراض والأطراف لا بالنسبة للغرامة فإنه يغرم فيوافق ما للمكناسي ولهذا درج ناظم العمل على ذلك حيث قال:
لوالد القتيل مع يمين ** القول في الدعوى بلا تبيين

إذا ادعى دراهماً وأنكرا ** القاتلون ما ادعاه وطرا

فلا مفهوم لقوله: القتيل بل المدار على كون المدعى عليه معروفاً بالغصب والعداء انظر شرحه، وانظر ما يأتي في الغصب ولا بد.
وَالمُدَّعَى فِيهِ لَهُ شَرْطَانِ ** تَحَقُّقُ الدَّعْوَى مَعَ البَيَانِ

(والمدعى فيه له شرطان) أحدهما: (تحقق الدعوى) به أي جزمها وقطعها بأن يقول: لي عليه كذا احترازاً من نحو أشك أو أظن أن لي عليه كذا فإنها لا تسمع القرافي: وفيه نظر لأن من وجد وثيقة في تركة مورثه أو أخبره عدل بحق له فلا يفيده ذلك إلا الظن، ومع ذلك يجوز له الدعوى به، وإن صرح بالظن كما لو شهدوا بالاستفاضة والسماع والفلس وحصر الورثة، وصرح بالظن الذي هو مستنده في الشهادة، فلا يكون قادحاً، فكذلك هاهنا لأن ما جاز الإقداح معه لا يكون النطق به قادحاً. وأجاب بعضهم بأن الظن هاهنا لقوته نزل منزلة القطع، وقد جاز له الحلف معه (خ) واعتمد البات على ظن قوي كخطه أو خط أبيه إلخ.
ثُمَّ عدم سماعها في الظن الذي لا يفيد القطع مبني على القول بأن يمين التهمة لا تتوجه. أبو الحسن: والمشهور توجهها. ابن فرحون: يريد بعد إثبات كون المدعى عليه ممن تلحقه التهمة. اهـ.
وعليه فتسمع فيمن ثبتت تهمته وإلاَّ فلا (خ) واستحق به بيمين إن حقق ويمين تهمة بمجرد النكول الخ وسيقول الناظم: وتهمة إن قويت بها تجب يمين متهوم إلخ.
قلت: ولقائل أن يقول: إن الدعوى تسمع هاهنا، ولو قلنا بعدم توجه يمين التهمة فيؤمر بالجواب لعله يقر فتأمله، فلو قال: أظن أن لي عليه ألفاً فقال الآخر: أظن أني قضيته لم يقض عليه بشيء لتعذر القضاء بالمجهول إذ كل منهما شاك في وجوب الحق له أو عليه، فليس القضاء بقول المدعي بأولى من القضاء بقول الآخر، فلو قال المطلوب: نعم كان له الألف علي، وأظن أن قضيته لزمه الألف قطعاً وعليه البينة أنه قضاه، وثانيهما قوله: (مع البيان) أي مع بيانه فأل عوض عن الضمير إما ببيان عينه كهذا الثوب أو الفرس أو الدراهم أو بيان صفته. كلي في ذمته ثوب أو فرس صفتهما كذا أو دراهم يزيدية أو محمدية، أو سبني أو شتمني أو قذفني بلفظ كذا إذ ليس كل سب وشتم يوجب الحد، وأما ببيان سبب المدعى فيه المعين أو سبب ما في ذمة المعين، فالأول كدعوى المرأة الطلاق أو الردة لتحرز نفسها لأنها معين، والثاني كدعوى المرأة المسيس أو القتل خطأ ليترتب الصداق أو الدية في ذمة الزوج أو العاقلة المعينة بالنوع، فبيان سبب المدعى فيه في هذين المثالين ونحوهما بيان شرعاً للمدعى فيه، فهما راجعان في المعنى للقسم الأول لأن المدعية تقول فيهما أحرزت نفسي لأنك طلقتني ولي عليك صداق أو دية لأنك مسستني أو قتلت وليي، وكذا لو قالت: بعت لك داري أو وأجرتها منك فادفع لي ثمنها أو أجرتها فهو راجع لما ذكر، فكان هذا القسم لا يحتاج المدعي فيه لبيان السبب لأنه مذكور بخلاف القسم الأول فلابد من بيانه كأن يقول من تعد أو بيع (خ) وكفى بعت وتزوجت، وحمل على الصحيح وإلاَّ فليسأله الحاكم عن السبب، ثُمَّ قال: وللمدعى عليه السؤال عن السبب. قال الحطاب: وليس بيان السبب من تمام صحة الدعوى بدليل قوله ولمدعى عليه إلخ.
واعترضه طفي قائلاً: بل هو من تمام صحة الدعوى مع عدم ادعاء النسيان، واحتج بكلام المجموعة وابن عرفة فانظره فيه، واعتراض الشيخ بذلك عليه بأنه لو كان شرطاً لبطلت الدعوى مع عدم ادعاء النسيان ساقط لما علمت من أن هذا إنما هو شرط صحة إذا لم يدع النسيان كما أن الدعوى بالمجهول ساقطة مع القدرة على التفسير عند المازري وغيره كما يأتي، فالتحقق في كلام الناظم راجع للتصديق، والبيان راجع للتصور أي لابد أن يكون المدعى فيه متصوراً في ذهن المدعي والمدعى عليه والقاضي فلا يغني أحدهم عن الآخر. وخرج بهذا الشرط الدعوى بمجهول العين أو الصفة كلي عليه شيء لا يدري جنسه ونوعه أو أرض لا يدري حدودها أو ثوب لا يدري صفته أو دراهم لا يدري صفتها ولا قدرها ونحو ذلك، فلا تسمع لأن المطلوب لو أقر وقال: نعم له علي ما يدعيه أو أنكر وقامت البينة بذلك لم يحكم عليه بهذا الإقرار، ولا بتلك الشهادة، إذ الكل مجهول والحكم به متعذر فليس الحكم بالمروي بأولى من المروي مثلاً، ولا باليزيدية بأولى من المحمدية، إذ من شرط صحة الحكم تعيين المحكوم به ولا تعيين هاهنا. وهكذا نقله غير واحد.
قلت: وهو ظاهر على أحد القولين الآتيين في قوله: ومن لطالب إلخ.
وقال المازري: تسمع الدعوى بالمجهول البساطي وهو الصواب لقولهم يلزم الإقرار بالمجهول ويؤمر بتفسيره، فكذلك هذا يؤمر بالجواب لعله يقر فيؤمر بالتفسير ويسجن له، فإن ادعى المقر الجهل أيضاً فانظر ما يأتي عند قوله: ومن لطالب بحق شهدا. الخ وانظر شرحنا للشامل أول باب الصلح قال الحطاب: مسائل المدونة صريحة في صحة الدعوى بالمجهول. المازري: وليس منه الدعوى على سمسار دفع إليه ثوباً ليبيعه بدينارين وقيمته دينار ونصف لأن الدعوى هنا تعلقت بأمر معلوم في الأصل ولا يضره كونه لا يدري ما يجب له يعني السمسار هل الثمن الذي سماه إن باع أو قيمته إن استهلكه أو غيبه إن لم يبع اه إلخ.
قلت: الدعوى هنا إنما هي في الثوب وهو معين فهو يطالبه برده، لكن إن استهلك أو باع فيرد الثمن أو القيمة لقيامها مقامه تأمل. وإلى ما مر أشار خليل بقوله: فيدعي بمعلوم محقق قال: وكذا شيء وإلا لم تسمع كأظن إلخ.
وقال في الإقرار: وقبل تفسيره كشيء وكذا وسجن له الخ ومحل الخلاف إذا كان المدعي لا يدري جنسه ولا قدره، وإلا فإن علم وأبى ذكره لم تسمع اتفاقاً، ومحله أيضاً إذا لم يكن الشيء الذي يدعيه من فضلة حساب كان بينهما ببينة. وقالت: لا نعرف قدرها وإلا فتسمع بلا خلاف كما يقتضيه كلام ابن فرحون، وانظر ما يأتي عند قول الناظم:
ومن لطالب بحق شهدا ** ولم يحقق عند ذاك العددا

ثُمَّ ما قررنا به كلام الناظم من أنه حذف متعلق الدعوى وأن أل في قوله: البيان عوض عن الضمير هو الذي ظهر لنا من كلام القرافي وغيره، وبه يندفع ما قيل إن ما ذكره شرط في الدعوى لا في المدعى فيه إذ لا يخفى أن الدعوى والمدعى فيه متلازمان فما كان شرطاً في أحدهما فهو شرط في الآخر، وما كان تقسيماً لأحدهما فهو تقسيم للآخر، فينتفي حينئذ التداخل في الأقسام التي عند (ت) وغيره والله أعلم. وبقي على الناظم شروط أخر كون المدعى فيه ذا غرض صحيح احترازاً من الدعوى بقمحة أو شعيرة ونحو ذلك، ولذا لا يمكن المستأجر للبناء ونحوه من قلع ما لا قيمة له وكونه مما لو أقر به المطلوب لقضى عليه به احترازاً من الدعوى بأنه قال: داري صدقة بيمين مطلقاً أو بغيرها ولم يعين إلخ.
ومن الدعوى عليه بالوصية للمساكين، ومما يؤمر فيه بالطلاق من غير قضاء كقوله: إن كنت تحبيني أو تبغضيني، ومن الدعوى على المحجور ببيع ونحوه من المعاملات فلا يلزمه، ولو ثبت بالبينة بخلاف ما إذا ثبت عليه الاستهلاك والغصب ونحوهما (خ): وضمن ما أفسد إن لم يؤمن عليه، والظاهر أن هذا الشرط يغني عن الذي قبله ولا يحترز به من دعوى الهبة والوعد لأنه يؤمر بالجواب فيهما. ولو على القول بعدم لزومها بالقول لاحتمال أن يقر ولا يرجع عن الهبة ولا يخلف وعده، وكون العادة لا تكذب الدعوى به احتراز من الدعوى بالغصب والفساد على رجل صالح (خ) وأدب مميز كمدعيه على صالح، ومن مسألة الحيازة المعتبرة فإن الدعوى لا تسمع فيها وقيل تسمع ويؤمر المطلوب بجوابها لعله يقر أو ينكر فيحلف قاله (ح) وهو المعتمد كما يأتي في فصل الحوز.
تنبيهان:
الأول: علم مما مر أن هذه الشروط كلها مبحوث فيها ما عدا الشرط الرابع، وظاهره أن المحجور لا تسمع الدعوى عليه في المعاملات، ولو نصبه وليه لمعاملات الناس بمال دفعه إليه للتجارة ليختبره، وهو كذلك إذ الدين اللاحق له لا يلزمه لا فيما دفع إليه ولا فيما بقي ولا في ذمته لأنه لم يخرج بذلك من الولاية قاله في المدونة، وقيل: يلزمه ذلك في المال المدفوع إليه خاصة، وهذا إذا لم يضمن به ماله، وإلاَّ فيضمن في المال المصون وهو محمول على عدم التصوين وانظر ما يأتي عند قوله:
وجاز للوصي فيمن حجرا ** أعطاه بعض ماله مختبرا

الثاني: تقدم أن بيان السبب من تمام صحة الدعوى لإمكان أن يكون سبب ما يدعيه فاسداً ككونه ثمن خمر أو ربا ونحو ذلك، ولذا قال ابن حارث: إذا لم يسأله القاضي عنه كان كالخابط خبط عشواء قال: فإن سأله الحاكم أو المدعى عليه عنه وامتنع من بيانه لم يكلف المطلوب بالجواب، فإن ادعى نسيانه قبل بغير يمين. قلت: وينبني على بيانه أن المطلوب إذا قال في جوابه: لا حق لك علي لا يكتفي منه بذلك بل حتى ينفي السبب الذي بينه المدعي كما يأتي عند قوله: ومن أبى إقراراً أو إنكاراً. إلخ... وإذا ميزت المدعي والمدعى عليه بما مرّ.
وَالمُدَّعِي مُطالَبٌ بالبَيِّنَه ْ ** وحالَةُ العُمُومِ فِيهِ بيَّنَهْ

(والمدعي مطالب بالبينة). إذا أنكر المطلوب لقوله (صلى الله عليه وسلم): (البينة على المدعي واليمين على من أنكر). وهكذا ذكر ابن رشد وغيره هذا الحديث. وذكره ابن عبد البر عن عمر بن شعبة عن أبيه عن جده قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وسلم): (البينة على المدعي واليمين على من أنكر). وأنكر ذلك ابن سهل وقال: إنما الحديث: (شاهداك أو يمينه). والبينة: تشمل الشاهدين والأربعة، والشاهد مع اليمين والمرأتين كما يأتي إن شاء الله.
(وحالة العموم فيه) أي في المدعي من كونه صالحاً أو طالحاً ادعى على صالح أو طالح (بينة) لقول القرافي وغيره: أجمعت الأمة على أن الصالح التقي مثل أبي بكر وعمر رضي الله عنهما لو ادعى على أفسق الناس درهماً واحداً لا يصدق فيه وعليه البينة فهذا مما قدم فيه الأصل على الغالب لأن الغالب أن الصالح التقي لا يدعي إلاَّ حقاً. وبهذا الإجماع احتج الشافعية علينا في تقديم الغالب على الأصل في دعوى المرأة المسيس وعدم الإنفاق ونحوهما مما شهد العرف فيه للمدعي كما مرَّ فقول (ت) يستثني من العموم المذكور مسألتا التدمية والمحتملة غصباً إذا ادعت الوطء فيقبل فيهما قول المدعي بغير بينة إلخ.
فيه نظر لأن المدعي فيهما لترجيح جانبه بالعرف صار مدعى عليه فهما كمسألتي المسيس وعدم الإنفاق ونحوهما داخلان في قول الناظم من قد عضدا. مقاله عرف إلخ.
وَالمُدَّعَى عَلَيْهِ باليَمِينِ ** فِي عَجْزِ مُدَّعٍ عنِ التَّبيينِ

(والمدعى عليه) مبتدأ (باليمين) يتعلق بخاص خبره أي مطالب باليمين وحذفه لدلالة ما تقدم عليه، ولا يصح عطفه على المدعي وباليمين على البينة لئلا يؤدي إلى العطف على معمولي عاملين مختلفين وهو لا يجوز وإنما يطالب باليمين (في) حال (عجز مدع عن التبيين) أي عن البينة وفي حال كون الدعوى في المال أو ما يؤول إليه وإلاَّ فكل دعوى لا تثبت إلا بعدلين فلا يمين بمجردها كنكاح وعتق ونحوهما وشمل كلامه ما إذا طلب الطالب يمين المطلوب لعجزه عن البينة، فادعى عليه المطلوب أنه كان حلفه على تلك الدعوى، فإن الطالب لا يتوصل ليمين المطلوب حتى يحلف أنه ما حلفه (خ) وله يمينه أنه لم يحلفه أولاً. اهـ.
وقال في اللامية:
لمن يزعم الأحلاف إحلاف خصمه ** على نفي أحلاف له قد تقبلا

وقول ناظم العمل:
ولا يمين حيث قال احلف لي ** إنك ما حلفتني من قبلي

لا يعول عليه وإن اختاره ابن رحال وما عللوه به من أن تمكينه من تحليفه فيه ضرر عظيم ويلزم عليه مقابلة يمين بيمين كله لا ينهض حجة لأنهم حافظوا على حق الطالب، وأخلوا بحق المطلوب. وقد تكون دعواه صحيحة ففيه ترجيح دعوى أحد الخصمين بلا مرجح، ومقابلة اليمين باليمين تنتفي بقلب اليمين على المطلوب والله أعلم. وهذا كله إذا قال: إنك حلفتني، وأما إن قال له: إنك أسقطت عني اليمين وأبرأتني منها فاحلف لي ما أسقطتها عني، فإن الطالب لا تجب عليه يمين لرد هذه الدعوى كما في الدر النثير ونوازل الدعاوى من المعيار، وأشعر قول الناظم مطالب باليمين الخ، أنه لو حلف قبل أن يطلبها الخصم منه لم تجزه ولو بأمر القاضي وهو كذلك كما في التبصرة وقال في اللامية:
وذو حلف من غير إحلاف خصمه ** وغير رضا لم يستفد شيئاً أملا

وأحرى في عدم الإجزاء إن حلف بغير حضور خصمه، وظاهر النظم أن اليمين تجب عليه في عجز المدعي عن البينة، ولو لم تكن خلطة، وهو قول ابن نافع وابن عبد الحكم من المالكية، وبه قال الشافعي وأبو حنيفة وغيرهما وبه العمل الآن قال ناظمه:
ودون خلطة توجه اليمين ** على الذي عليه إلا دعا يبين

وظاهر هذا العمل عدم التفريق بين ذوي العلا والمروءة وغيرهم، وفرق بعضهم بين الدعوى على الرجل المنقبض عن مداخلة الناس ومخالطتهم، والمرأة المستورة المحتجبة فلا تجب عليهما اليمين بالدعوى إلا بعد ثبوت الخلطة ابن عبد البر: وهو المعمول به، وإليه أشار الزرقاني في لاميته بقوله:
لكن ببلدة يوسفيخص بها ** ذات الحجاب وذو العلا الخ

ونحوه لابن هلال عن ابن رشد، واختاره ابن رحال وهو الذي ينبغي اعتماده، إذ كثير من الناس يتجرأ على ذوي الفضل والدين ويريد إهانتهم بالأيمان في الدعاوى الباطلة، وقد شاهدنا من ذلك في هذا الزمان ما الله أعلم به. ثُمَّ العمل بترك الخلطة إنما هو في الدعاوى بالمال من معاملة ونحوها لا في الدعاوى التي يشترط في توجه اليمين بها الظنة والتهمة كالغصب والتعدي والسرقة ونحوها فلم يجر عمل بتوجهها بدون ثبوت التهمة كما مرّ عن ابن فرحون ونحوه في (ح) والرعيني بل تقدم أنه إذا ادعى بذلك على صالح لم تسمع دعواه ويؤدب ويأتي للناظم: وتهمة إن قويت إلخ.
فانظر هناك، والمراد بثوبتها أن يكون ممن قد أشير إليه بالغصب ونحوه سواء ثبت أو لم يثبت، ولكن علم أنه قد ادعى بها عليه كما في ابن سهل، وفهم من قول الناظم في عجز مدع الخ أن المدعي إذ لم يعجز وأقام البينة على دعواه يقضي له بحقه من غير يمين تلزمه مع كمال بينته وهو كذلك ما لم يدع عليه المطلوب القضاء، أو أنه عالم بفسق شهوده، وإلاَّ فتجب (خ): وكذا أنه عالم بفسق شهوده أي حقق عليه الدعوى بأنه عالم بعلمه بفسق شهوده فتتوجه عليه اليمين.
(فرع): من وجبت عليه يمين فتغيب طالبها فإن القاضي يوكل من يتقاضاها له بعد ثبوت مغيبه، ويشهد بذلك قاله ابن عات في طرره ويأتي نحوه عند قول الناظم: ومن ألد في الخصام وانتهج. إلخ.
فإن سأل الطالب تأخيرها وسأل المطلوب تعجيلها أو بالعكس، فالقول لطالب تعجيلها، وإذا كانت الدعوى على امرأة وطلب الخصم أن تحلف بمحضره فإن كانت من ذوي القدر والشرف فيبعث الحاكم من يحلفها ويقضي عليه بأن يقف حيث يسمع يمينها ولا يرى شخصها.
(فائدة): رأيت أن نذكر رسالة أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه المعروفة برسالة القضاء. ابن سهل: هذه الرسالة أصل فيما تضمنته من فصول القضاء ومعاني الأحكام قال في ضيح: فينبغي حفظها والاعتناء بها. وهي: (بسم الله الرّحمن الرّحيم)، من عمر بن الخطاب أمير المؤمنين إلى أبي موسى الأشعري سلام عليك.
أما بعد: فإن القضاء فريضة محكمة وسنّة متبعة فافهم إذا أدلي إليك وأنفذ إذا تبين لك فإنه لا ينفع تكلم بحق لا نفاذ له وهو بين الناس في وجهك وعدلك ومجلسك حتى لا يطمع شريف في حيفك، ولا ييأس ضعيف من عدلك، البينة على من ادعى واليمين على من أنكر، والصلح جائز بين المسلمين إلاّ صلحاً أحل حراماً أو حرم حلالاً، ولا يمنعك قضاء قضيته بالأمس ثُمَّ راجعت فيه نفسك وهديت فيه لرشدك أن ترجع إلى الحق، ومراجعته خير من الباطل والتمادي فيه. الفهم الفهم فيما تلجلج في صدرك مما لم يبلغك في الكتاب والسنة أعرف الأمثال والأشباه، وقس الأمور عند ذلك، واعمد إلى أقربها إلى الله تعالى، وأشبهها بالحق فيما ترى، واجعل لمن ادعى حقاً غائباً أو بينة أمداً ينتهي إليه فإن أحضر بينة أخذت له بحقه وإلاَّ أوجبت له القضاء فإن ذلك أنفى للشك وأبلغ للعذر. الناس عدول بعضهم على بعض إلا مجلوداً في حد أو مجرباً عليه شهادة زور أو ظنيناً في ولاء أو نسب، فإن الله تعالى تولى منكم السرائر ودرأ عنكم بالبينات والأيمان وإياك والقلق والضجر والتأذي بالناس والتنكير عند الخصومات فإن الحق في مواطن الحق يعظم به الأجر ويحسن عليه الذخر، فإن من يصلح ما بينه وبين الله تعالى وهو على نفسه يكفه الله ما بينه وبين الناس ومن تزين للناس بما يعلم الله منه غيره شانه الله، فما ظنك بثواب الله في عاجل رزقه وخزائن رحمته والسلام ابن سهل.
وقوله في هذه الرسالة: المسلمون عدول بعضهم على بعض إلخ.
رجع عنه بما رواه مالك في الموطأ قال ربيعة: قدم رجل من أهل العراق على عمر بن الخطاب رضي الله عنه فقال: قد جئتك على أمر لا رأس له ولا ذنب، فقال عمر: ما هو؟ فقال: شهادة الزور ظهرت بأرضنا. فقال عمر: والله لا يؤسر رجل في الإسلام بغير عدول، وهذا يدل على رجوعه عما في هذه الرسالة. وأخذ الحسن والليث بن سعيد من التابعين بما في هذه الرسالة من أمور الشهود والأكثر على خلافه لقوله تعالى: {وأشهدوا ذوي عدل منكم} (الطلاق: 2) ممن ترضون من الشهداء} (البقرة: 282). اهـ.
وإذا كان المتنازع فيه المعين كدار وثوب وفرس مثلاً في غير بلد المدعى عليه كان في بلد المدعي أم لا، وأراد المدعي رفع المدعى عليه لقاضي بلده يحاكمه عنده لم يكن له ذلك حيث امتنع المطلوب وأراد المخاصمة عند قاضيه كما قال:
وَالحكْمُ في المَشْهورِ حَيْث المدَّعى ** عَليْهِ في الأصُولِ والمالِ مَعا

(والحكم في المشهور حيث المدعى. عليه في الأصول و) في (المال) المعين (معا) (خ): وهل يراعى حيث المدعى عليه وبه عمل أو المدعي وأقيم منها إلخ.
فإن كان النزاع في دين في الذمة. وشبهه كقصاص فهو قوله:
وحَيْثُ يُلْفِيهِ بِما في الذِّمَّهْ ** يَطْلُبهُ وَحَيْثُ أَصْلٌ ثَمَّهْ

(وحيث يلفيه بما في الذمة يطلبه) أي ويخاصمه بما في ذمته حيث ما وجده. ابن حبيب: وكذا إن كان المتنازع فيه المعين من دار ونحوها مع المطلوب في المحل الذي لقيه فيه فله أن يحبسه لمخاصمته في ذلك المحل، وإليه أشار بقوله: (وحيث أصل ثمه) بفتح الثاء المثلثة ظرف مكان يتعلق بمحذوف خبر عن قوله أصل والهاء للسكت أي ويطلبه في المكان الذي لقيه فيه حيث كان الأصل ثمة أي في ذلك المكان. فتحصل أن المدعى عليه إذا لم يخرج من بلده فليست الدعوى إلا هنالك كان المتنازع فيه هناك أم لا، وإن خرج من بلده فإما أن يلقاه في محل الأصل المتنازع فيه، أو يكون المال المعين معه أو لا، فيجيبه لمخاصمته هناك في الأوّل دون الثاني، وأما ما في الذمة فيخاصمه حيثما لقيه.
وَقُدِّمَ السَّابِقُ لِلْخِصامِ ** وَالمُدَّعِي لِلْبَدْءِ بالْكَلاَمِ

(و) إذا اجتمع لدى القاضي خصوم وتنازعوا في من يسبق للتحاكم (قدم السابق) منهم (للخصام) ثُمَّ الذي يليه، وهكذا إلا أن يكون فيهم مسافر أو ما يخشى فيقدمان حينئذ على السابق كما قال (خ) وقدم مسافر وما يخشى فواته ثُمَّ السابق قال: وإن بحقين بلا طول إلخ.
قال في التوضيح: وينبغي للقاضي أن يوكل من يعرف السابق من الخصوم من اللاحق إلخ.
واعلم أن المدعي يطلق على معنيين، أحدهما: المأمور بالبينة وهو ما مر في قوله: فالمدعي من قوله مجرد. والآخر: الجالب الذي يؤمر بالكلام وإليه أشار بقوله: (و) قدم (المدعي) أي الجالب لصاحبه (للبدء بالكلام) ويسكت الآخر حتى يفرغ المدعي من دعواه، فإن صحت باستجماع شروطها المتقدمة أمره بجوابه وإلاَّ صرفه عنه، فإن جلسا بين يديه ولم يعلم الجالب منهما فلا بأس أن يقول: ما لكما وما خصومتكما أو يسكت ليبتدياه، ولا يبتدئ أحدهما فيقول: ما تقول أو ما لك؟ إلا أن يعلم أنه المدعي ولا بأس أن يقول: أيكما المدعي؟ فإن قال أحدهما: أنا أمره بالكلام، فإن قال كل منهما: أنا المدعي أو المدعى عليه صرفهما عنه حتى يأتي أحدهما أولاً كما قال:
وَحَيْثُ خُصْم حالَ خَصْمٍ يَدَّعِي ** فاصْرِفْ وَمَنْ يَسْبِقْ فَذَاكَ المُدَّعِي

فخصم: مبتدأ وسوغ الابتداء به قصد الجنس، ويدعي: خبره، وقوله: فاصرف جواب ما تضمنته حيث من معنى الشرط: ودخلت عليه الفاء لأنه لا يصلح أن يكون شرطاً.
وَعِنْدَ جَهْلِ سابِقٍ أوْ مُدَّعي ** منْ لَجّ إذْ ذَاكَ لِقُرْعَةٍ دُعي

(وعند جهل سابق) في الصورة الأولى (أو) جهل (مدعي) في الثانية فإن رجعا دفعة واحدة بعد أن صرفهما ولجأ في تعيين السابق في الأولى والمدعي في الثانية فإنه يقرع بينهما كما قال (من لج إذ ذاك لقرعة دعي) فقوله: من لج بالجيم من اللجاج أي الخصومة وهو مبتدأ وعند جهل يتعلق به ولكونه ظرفاً صح تقديمه على الموصول وصلته لأنهم يتوسعون فيه. والجملة من قوله: لقرعة دعي: خبره وإذا ذاك يتعلق بدعي وذاك إشارة للجاج، وخبره محذوف أي حاصل. والجملة في محل جر بإضافة إذ إليها. وكيفية القرعة أن تكتب أسماؤهم في بطائق وتخلط فمن خرج اسمه بدئ به، وما ذكره الناظم من القرعة عند جهل المدعي صدر به في الشامل، وقيل: يبدأ بمن شاء منهما، والضعيف أولى وقيل يصرفهما وقيل يتحالفان. اهـ.